الزمان
ليس أهلها فقراء إلى هذا الحد! ومع ذلك تركوها دون شاهدة من حجر تربط إليها غصون الآس! كأنها عاشت دون اسم، دون وجه! ينكرونها! من غرس إذن هذه العلبة من المعدن في الطين الهش لتوضع فيها أزهار لم يجرؤ أحد على وضعها؟ من؟ ذزين الأحياء المقبرة في صباح العيد بحزم الآس، وزهر الغريب. حمل بعضهم ورودا وقرنفلا من أحواض البيوت. أتى بعضهم بزنبق أبيض وأحمر تفتح مبكرا هذه السنة. ثم خرجوا من زيارة الموتى إلى زيارة الأحياء، إلى حلوى العيد وروائح الطعام وعبق السمن. تفرج الموتى من خلف ستائرهم الشفافة على تلك الزيارات. وراقبوا الحزن الطري، والحزن الجاف، ولاحظوا غيرة الأحياء من راحة الموتى الذين تركوا الهمّ لمن بقي في الحياة. وتابعوا حوارا بين الأحياء وبين القبور، لايستطيع الموتى أن يجيبوا فيه على كلمة مما يقال. لو استطاعوا لقالوا لاولئك الأحياء: يوم كنتم تستمتعون بالسمن وتأملون بالعسل لم تغبطونا على الموت! ولقالوا: تتمنون عودتنا، فهل تركتم رقعة بقدر الكف لقدم، أو تركتم شجرة نستظل بها؟ ولقالوا: زورتم الحسابات فهل تقدرون الفوضى التي ستعصف بكم لو تحققت رغبتكم فعدنا إلى الحياة؟ ولقالوا: إياكم أن تغرونا بما تخلصنا منه من عواطف الأحياء! ولجرى كثير من العتاب، وكثير من الغضب والغم. لكن الكلام والصمت كانا موزعين بين جانبين يقول كل منهما لنفسه ماشاء ويتوهم ماأراد! ]لم يكن الموتى يتجولون في مملكتهم في أيام الأعياد إلا بعد أن ينصرف الزوار، وتغلق البوابات. وكانوا يبكرون بجولتهم في المساء في تلك الأيام، كي يتأملوا مملكتهم المزينة بالآس والزهر والريحان. ويوزعوا في عدل ماأخطأ في توزيعه الأحياء. فيفكون أغصان الآس المكتظة على شاهدة ليحملوا بعضها إلى شاهدة أخرى قلّ فيها. وينقلون الورد إلى قبور الشباب والفقراء، ويرشونها بالماء. هي، لم تكن تعرف، بعد، تلك الواجبات. أحاط بها المساء، فانصرفت إلى ماكانت تحبه في الحياة. آه، المساء! بعد حر النهار، تفتح باب القاعة وتخرج إلى أرض الدار. تغرف الماء بالسطل من البركة وتسكبه على الحجارة البيضاء والسوداء. فتشعر بهواء ساخن يفور من الأرض. ثم تهب الرطوبة، ويصبح الهواء منعشا رخيا. ترفع ذراعها وتسفح الماء على النباتات المصفوفة في طرف أرض الدار. ترفع ذراعها وتنثر الماء على شجرة الليمون، على البنفسج في الأحواض، على الشكرية التي بدأت ترخي أزهارها البنفسجية، على العطرة، على حلق المحبوب، على الدادا والأرطاسيا. تفور النافورة في وسط البركة، وتدور هي حول نفسها وتسكب الماء على الهواء الناعم الذي يعرش على جانب من الجدار، على الهواء الخشن الذي بدأت حبيباته الحمراء تطرز خضرته المصفرة. "ماذا تفعلين يازهرة؟ ذهب بعقلك الحر؟" بل المساء والماء! آه تفهم الآن لماذا تسمع في البيوت كلها صوت الماء يتدفق من البحرات على أرض الدار، ويسقي الأحواض ويغسل الأشجار، وينسكب في كرم على الحجارة البيضاء والوردية والسوداء. "الماء نعمة الشام!" تسمع كلمات أمها وهي ترش الأشجار بالماء. لاتغسل فقط أوراق شجرة الليمون وشجرة الكباد وشجرة النارنج التي ماتزال مزينة ببعض ثمارها البرتقالية! تغسل روحها من الغبار! تغسل بشرتها البيضاء! تغسل ذراعيها إلى المرفقين، وترش نفسها بالرذاذ! ترفع رأسها. ازرقت السماء! انكسر الحر فاستعادت الدنيا ألوانها! ياللمساء! يغسل المدينة ويعيد إليها الألوان! فلماذا أخرجوها من هناك في تلك الساعة المحبوبة، في المساء؟! ]لم تستطع أن تقول هناك بعض الكلمات. فليست البنت من تقول لأهلها: لاتقلقوا سيتبدل الزمان! لاأتزوج، لأن الشغل قلّ عند الخياط، وعند بائع القماش. لاتمتلئ السوق بالناس قبيل الأعياد! وبائع الحلو لايبيع عشية العيد من حلواه! وأصوات الصواني لاترتفع في بيوت الجيران في طريقها إلى الفران! لكن لاتقلقوا علي! مازلت في أول العمر. سيبرح الزمان هذه الأيام! وسأواكب الزمان! []تسمع أمها: يازهرة، هاتي القهوة! فتحمل الصينية، ويفوح الهيل والبن الذي طحنته قبيل لحظات بالمطحنة النحاس. وتدخل إلى الزوار. نساء على رؤوسهن غطاء، نساء دون غطاء، نساء شابات، نساء في منتصف العمر، عجائز مرتبات. يعانقنها ليعرفن رائحتها، وملمس بشرتها، كما يحدث ذلك تماما في الحكايا عن الزواج. أزمنة قديمة تستعاد! طبعا، حتى العروس عادت تسكن مع أهل زوجها. من يدبر بيتا في هذا الزمان؟! سمعت ياأمي: "في هذا الزمان"؟! العتب على الزمان! لذلك لاتتزوج إلا البنات الغنيات والشباب الأغنياء. من بقي يشتغل ليعيش، وخلال ذلك يضع رجل خبزته على جبنة فتاة. ]يازهرة، هاتي القهوة! تحمل الصينية وتدخل إلى الضيوف. تعرف أن الزائرات يبحثن لابنهن عن كنز، آملات باكتشاف. لكن النتيجة واضحة للعميان. ألايقال ركود في الاقتصاد؟ فلنقل ركود مثله في الزواج! تقول الخياطة يتزوج فقط القادمون من الخليج في عطلة الصيف. من بقي لايرانا ولانراه! ويردد ذلك الحلاق والسمان. تحمل صينية القهوة وتدخل كي ترضي أمها. لم نكرر ذلك ياأمي؟ كنت تقولين ماعاد أحد يتزوج بهذه الطريقة. فماذا جرى لك؟ أنت معلمة! أستاذة! لكنك ترتجفين من الزمان. أطفأت التلفزيون. لاتتفرجي ياأمي على الحروب هناك! ستقولين لنفسك ستصل النار إلى هنا من هناك. وتتذكرين ماروته أمك عن "السفر بر" وجوع الناس وبيع البنات! تهب علي رعشتك، لذلك أحمل صينية القهوة وأدخل إلى الزائرات. لكني حتى اليوم لاأعرف كيف جرف أخي الجنون! أنا سبب جنونه، أم السبب أنه لم يجد شغلا منذ تخرج من الجامعة؟ مرت سنوات وهو يستأجر، مرة ليقود سيارة تاكسي، ومرة يحاول أن يشتغل عامل تمديدات فيفشل هنا وهناك. لامكان له! مهندس زراعي والأشجار تقتلع والمدينة تندفع إلى المقاولات! يتبين أن دراسته في الجامعة دون فائدة، وأنه غير مؤهل لما تنفتح له البوابات! يبدو لي ياأمي أن اضطرابه من فشله يدفعه إلى فشل آخر. الزمان ياأمي، الزمان!
يتبع |